الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
اعلم، أنّه لمّا كان سائر المفهومات التي تتضمّنها هذه الكلمة من صفات الكمال- بالألف وبدونه- كلّها ثابتة للحقّ، لهذا وردت القراءة بالروايتين، فإنّ الجمع أولى وأكمل، ولمّا كان أمر الحقّ واحدا، والترجيح في كلّ مرتبة من مراتب الأسماء والصفات لا يصحّ إلّا لشيء واحد من نسبة واحدة، فبذلك الأمر الراجح يصل الأمر الإلهي الوحداني إلى غيره من الأشياء المرجوحة، في ذلك المقام وتلك المرتبة، وهو مظهر الحقّ، وحامل سرّ الربوبيّة والتحكّم على ما تحت حيطته حالتئذ، كما ذكر من قبل، ويذكر أيضا عن قريب- إن شاء اللّه- اقتضى الأمر الذوقي ترجيح إحدى القراءتين مع جواز القراءة بهما.ومتعلّق ذلك الترجيح القراءة ب {ملك يوم الدّين} دون {مالك} لأسرار تقتضيها قواعد التحقيق:أحدها: أنّ المالك مندرج في الاسم الربّ فإنّ أحد معاني الاسم الربّ في اللسان المالك، والقرآن العزيز ورد بسرّ الإعجاز والإيجاز، فلو ترجّحت القراءة بمالك، لكان ذلك نوع تكرار ينافي الإيجاز، والكشف التامّ أفاد أن لا تكرار في الوجود، فوجب ترجيح القراءة إذا ب {ملك} دون {المالك} والسرّ الآخر فيما ذكرنا يظهر بعد التنبيه على مقدّمتين:إحداهما: استحضار ما ذكرت أنّ الآخر نظير الأوّل، بل هو عينه فإنّ الخواتم عين السوابق.والمقدّمة الأخرى: أنّ جميع الأمور الحاصلة في الوجود لم تقع عن اتّفاق، بل بترتيب إلهي مقصود للحقّ، وإن جهلته الوسائط والمظاهر.وليس في قوّة الممكنات المتّصفة بالوجود في كلّ وقت قبول ما هو أشرف من ذلك ولا أكمل، فإن لم تهتد العقول إلى سرّ ذلك الترتيب وسرّ الحكم الإلهيّة المودعة فيه، فذلك للعجز الكوني والقصور الإمكاني، وقد لوّحت بشيء من ذلك على سبيل التنبيه والتذكرة عند الكلام على أسرار حروف البسملة.وإذا تقرّر هذا، فأقول: آخر سور القرآن في الترتيب الإلهي الواقع المستمرّ الحكم- سواء عرف ذلك حال الترتيب أو لم يعرف- هو {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وهذا الاسم ورد في هذه السورة بلفظ الملك دون المالك وذكر عقيب الاسم الربّ مع عدم جواز القراءة فيها بمالك، فدلّ على أنّ القراءة بملك أرجح.وأيضا فإنّ الحقّ يقول في آخر الأمر عند ظهور غلبة الأحديّة على الكثرة في القيامة الكبرى، والقيامة الصغرى الحاصلة للسالكين عند التحقيق بالوصول، عقيب انتهاء السير وحال الانسلاخ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} والحاكم على الملك هو الملك، فدلّ على أنّه أرجح.وأيضا فالأسماء المستقلّة، لها تقدّم على الأسماء المضافة، والاسم الملك ورد مستقلّا بخلاف المالك وممّا يؤيّد ذلك أنّ الأسماء المضافة لم تنقل في أسماء الإحصاء الثابتة بالنقل، مثل قوله عزّ وجلّ: {فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} و{ذِي الْمَعارِجِ} وشبههما.وأيضا فالأحاديث النبويّة مبيّنات لأسرار القرآن، ومنبّهات عليها، وقد ورد في الحديث في بعض الأدعية النبويّة: «لك الحمد لا إله إلّا أنت ربّ كلّ شيء وملكه». ولم يرد ومالكه وهذا السياق مناسب لسياق الأسماء المذكورة في أوّل الفاتحة.وأيضا ما ذكروه في ترجيح المالك على الملك- من أنّ المالك مالك العبد، وأنّه مطلق التصرّف فيه، بخلاف الملك فإنّه إنّما يملك بقهر وسياسة ومن بعض الوجوه- فقياس لا يصحّ ولا يطّرد إلّا في المخلوقين لا في الحقّ فإنّه من البيّن أنّه مطلق التصرّف، وأنّه يملك من جميع الوجوه، فلا تقاس ملكيّة غيره عليه، ولا تضاف النعوت والأسماء إليه إلّا من حيث أكمل مفهوماتها، وسيّما مما سبق وضوحه بالشرع والبرهان، فاعلم، فدلّ ذلك على ترجيح القراءة بملك يوم الدّين.وأمّا سرّ المالك من حيث الباطن فقد اندرج فيما ذكرته في شرح الاسم الربّ فأغنى ذلك عن الإعادة، فافهم وتذكّر، واللّه المرشد.سرّ اليوم:لابد قبل الشروع في الكلام على أسرار هذه الكلمة من تقديم مقدّمة تكون مذكّرة ببعض ما سلف من الأصول المنبّهة على حقيقة الزمان وما يختصّ به وما [هو] مستنده في الإلهيّات، فأقول:قد علمت ممّا مرّ أنّ الغيب الإلهي المطلق لا يحكم عليه بالتناهي ولا التعيين ولا التقييد ولا غير ذلك، وأنّ الممكنات غير متناهية، لكنّ الداخل في الوجود من الممكنات والظاهر من الغيب الذاتي- في كلّ وقت ومرتبة وحال وموطن، وبالنسبة إلى كلّ اسم- لا يكون إلّا أمرا متعيّنا ذا بداية وغاية مقدّرة.والحقائق الكلّيّة والأسماء الإلهيّة الحاكمة في الأكوان متناهية الأحكام، لكنّ بعضها ينتهي حكمه جملة واحدة، وبعضها ينتهي حكمه من الوجه الكلّي لا الجزئي التفصيلي.وبيّنت أيضا أنّ الإنسان متعيّن متميّز متقيّد بعدّة أمور وصفات لا يمكنه الانفكاك عن كلّها لكن عن بعضها، فكلّ ما يصل إليه من غيب الحقّ من تجلّ وخطاب وحكم فإنّه يرد بحسبه، وينصبغ بحكم حاله ومرتبته، ومبدأ الحكم الإلهي ومنشأه هو من التعيّن الأوّل، وله النفوذ والاستمرار على نحو ما بيّن من قبل.وإذا وضح هذا، فنقول: أصل الزمان الاسم الدهر وهو نسبة معقولة كسائر النسب الأسمائيّة والحقائق الكلّيّة، وهو من أمّهات الأسماء، ويتعيّن أحكامه في كلّ عالم بحسب التقديرات المفروضة، المتعيّنة بأحوال الأعيان الممكنة وأحكامها وآثار الأسماء ومظاهرها السماوية والكوكبيّة.ولمّا امتاز كلّ اسم- من حيث تقيّده بمرتبة معيّنة- بأحكام مخصوصة ينفرد بها مع اشتراكه مع غيره من الأسماء في أمور أخر، اقتضى الأمر أن يكون محلّ نفوذ أحكام كلّ اسم ومعيّنات تلك الأحكام أعيانا مخصوصة من الممكنات هي مظاهر أحكامه ومحلّ ربوبيّته فإذا انتهت أحكامه المختصّة به في الأعيان القابلة لتلك الأحكام من الوجه الذي يقتضي لها الانتهاء، كانت السلطنة لاسم آخر في أعيان أخر، وتبقى أحكام ذلك الاسم إمّا خفيّة في حكم التبعيّة لمن له السلطنة من الأسماء، وإمّا أن ترتفع أحكامه، ويندرج هو في الغيب، أو في اسم آخر أتمّ حيطة منه وأدوم حكما، وأقوى سلطانا هكذا الأمر على الدوام في كلّ عالم ودار وموطن، ولهذا اختلفت الشرائع والإلقاءات والتجلّيات الإلهيّة، وقهر ونسخ بعضها بعضا مع صحّة جميع ذلك وأحديّة الأصل وحكمه من حيث هو وأمره، فافهم.ولا تكون السلطنة والغلبة في كلّ وقت بالنسبة إلى كلّ مرتبة وموطن وجنس ونوع وعالم إلّا لاسم واحد، ويبقى حكم باقي الأسماء في حكم التبعيّة كما أشرت إلى ذلك غير مرّة لأنّ السلطان للّه وحده، والألوهيّة الحاكمة الجامعة للأسماء واحدة وأمرها واحد، فمظهر ذلك الأمر في كلّ وقت وحال لا يكون إلّا واحدا إذ بالوحدة الإلهيّة يحصل النظام، ويدوم حكمه في الموجودات جميعها وإليه الإشارة بقوله عزّ وجلّ: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَة إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} وهذا من البيّن عند المحقّقين.وإلى هذا الأصل يستند القائلون بالطوالع في أحكام المواليد وغيرها، فيجعلون الحكم مضافا إلى أوّل ظاهر من الأفق حين الولادة والشروع في الأمر والانتهاء إليه، وما سوى الأوّل الذي له السلطنة حينئذ فتبع له، ومنصبغ بحكمه، فافهم.وقد عرفت أنّ الحقّ هو الأوّل والظاهر، وقد نبّهت في هذا الكتاب على كثير من أسرار الأوّليّة في غير موضع منه، فتذكّر ترشد- إن شاء اللّه تعالى- ثم نقول: فتعيين الأوقات والأيّام والشهور والأعوام والأدوار العظام، كلّها تابعة لأحكام الأسماء والحقائق المذكورة، والعرش والكرسي والأفلاك والكواكب مظاهر الحقائق والأسماء الحاكمة المشار إليها ومعيّنات لأحكامها فبالأدوار تظهر أحكامها الكلّيّة الشاملة المحيطة، وبالآنات تظهر أحكامها الذاتيّة من حيث دلالتها على المسمّى وعدم مغايرتها له، كما بيّنّا ذلك من قبل، وما بين هاتين المرتبتين من الأيّام والساعات والشهور والسنين فيتعيّن باعتبار ما يحصل بين هذين الأصلين من الأحكام المتداخلة، وما يتعيّن بينهما من النسب والرقائق، كالأمر في الوحدة التي هي نعت الوجود البحت، والكثرة التي هي من لوازم الإمكان، والموجودات الظاهرة بينهما والناتجة عنهما، فافهم.وانظر اندراج جميع الصور الفلكيّة وغيرها في العرش مع أنّه أسرعها حركة، وكيف يتقدّر بحركته الأيّام؟! وارق منه إلى الاسم الدهر من حيث دلالته على الذات وعدم المغايرة كما بيّنّا، واعتبر الآن الذي هو الزمن الفرد غير المنقسم، فإنّه الوجود الحقيقي وما عداه فأمر معدوم سواء فرض ماضيا أو مستقبلا، فللوجود الآن، وللدور حكم الكثرة والإمكان، ولمعقوليّة الحركة التعلّق الذي بين الوجود الحقّ وبين الأعيان، فبين الآن والدوران المدرك مظهره في العيان، وبين الوجود والإمكان المدرك بالكشف والمعقول في الأذهان تظهر الأكوان والألوان، وتتفصّل أحكام الدهر والزمان، فمستند الأدوار أكتب علمي في خلقي إلى يوم القيامة ومستند الآن ومحتده كان اللّه ولا شيء معه وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ} فافهم.فبالآن تتقدّر الدقائق، وبالدقائق تتقدّر الدرج، وبالدرج تتقدّر الساعات، وبالساعات يتقدّر اليوم، وتمّ الأمر بهذا الحكم الرباعي والسرّ الجامع بينهما.فإن انبسطت سمّيت أسابيع وشهورا وفصولا وسنين، وإلّا كان الزائد على اليوم تكرارا، كما أنّ ما زاد على السنة في مقام الانبساط تكرار.ومن تحقّق بالشهود الذاتي، وفاز بنيل مقام الجمع الأحدي لم يحكم بتكرار ولم ينتقل من حكم الآن إلى الأدوار فإنّ ربّه أخبره أنّه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فلمّا أضاف اليوم إلى الهو، عرف شهودا وإخبارا أنّه الآن الذي لا ينقسم لأنّ يوم كلّ مرتبة واسم بحسبه وللهو الذات الوحدة التي تستند إليها المرتبة الجامعة للأسماء والصفات، ومن هذا المقام يستشرف هذا العبد وأمثاله على سرّ قوله عزّ وجلّ: {وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَة كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} فيعلم الأقرب أيضا ويشهده وإن لم يكيفه، فاعلم، واللّه المعلّم الهادي.سرّ الدِّينِ:هذه الكلمة لها أسرار كثيرة لا تتشخّص في الأذهان، ولا تنجلي لأكثر المدارك والأفهام، إلّا بعد استحضار عدّة مقدّمات عرفانيّة ذوقيّة يجب تقديمها قبل الكلام عليها بلسان التفصيل، وحينئذ نذكر ما تشتمل عليه من المعاني- إن شاء اللّه تعالى- وليست فائدة هذه المقدّمات مقصورة على فهم ما تتضمّنه هذه الكلمة من الأسرار المنبّهة عليها، بل هي عامّة الفائدة ينتفع بها فيما سبق من الكلام وما يذكر من بعد وفيما سوى ذلك.وإذا عرفت هذا، فنقول: اعلم، أنّ الصفات والنعوت ونحوهما تابعة للموصوف والمنعوت بها بمعنى أنّ إضافة كلّ صفة إلى موصوفها إنّما تكون بحسب الموصوف، وبحسب قبول ذاته إضافة تلك الصفة إليها، والحقّ سبحانه وإن لم يدرك كنه حقيقته، فإنّه قد علم بما علّم وأخبر وفهّم أنّ إضافة ما تصحّ نسبته إليه من النعوت والصفات لا تكون على نحو نسبتها إلى غيره لأنّ ما سواه ممكن، وكلّ ممكن فمنسحب عليه حكم الإمكان ولوازمه، كالافتقار والقيد والنقص ونحو ذلك وهو سبحانه من حيث حقيقته مغاير لكلّ الممكنات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء فإضافة النعوت والصفات إليه إنّما تكون على الوجه المطلق الكلي الإحاطي الكامل.ولا شكّ أنّ العلم من أجلّ النسب والصفات، فإضافته ونسبته إلى الحقّ إنّما تكون على أتمّ وجه وأكمله وأعلاه، فلا جرم شهدت الفطر بنور الإيمان، والعقول السليمة بنور البرهان، والقلوب والأرواح بأنوار المشاهدة والعيان بأنّه لا يعزب عن علمه علم عالم، ولا تأويل متأوّل، ولا فهم فاهم لإحاطة علمه بكلّ شيء كما أخبر وعلّم.وكلامه أيضا صفة من صفاته أو نسبة من نسب علمه على الخلاف المعلوم في ذلك بين أهل الأفكار، لا بين المحقّقين من أهل الأذواق. والقرآن العزيز هو صورة تلك الصفة، أو النسبة العلميّة- كيف قلت- فله الإحاطة أيضا كما نبّه على ذلك بقوله تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} وبقوله أيضا: {وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} فما من كلمة من كلمات القرآن ممّا يكون لها في اللسان عدّة معان إلّا وكلّها مقصودة للحقّ، ولا يتكلّم متكلّم في كلام الحقّ بأمر يقتضيه اللسان الذي نزل به، ولا تقدح فيه الأصول الشرعيّة المحقّقة، إلّا وذلك الأمر حقّ ومراد للّه، فإمّا بالنسبة إلى الشخص المتكلّم، وإمّا بالنسبة إليه وإلى من يشاركه في المقام والذوق والفهم.
|